ليلة مباركة فيها
أنزلت المعجزة الخالدة التي لا ريب فيها ولا شك؛ مهما تعاقبت السنون
والأجيال، ففيها الهدى والنور للمتقين، فهم المتقدمون لإمامة المسلمين
أجمعين، فلهم قدم السبق عمن سواهم، وهم في الأمة باقون كثّر الله سوادهم،
فيحمل هذا القرآن الكريم من كل خلف عدوله.
فالمتقون هم الذين فازوا
بالهدى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
[البقرة:2] وقد نزل الكتاب في ليلة من وتر العشر الأواخر من شهر رمضان
المبارك وقد قال ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالصيام غايته ومآله وأثره التقوى،
وأُنزل القرآن الكريم هدى للصائمين المتقين لأنهم بصيامهم وتقواهم هيؤوا
أنفسهم لفهم القرآن وتدبر معانيه والالتزام به قولاً وعملاً.
ليلة القدر نزل فيها كتاب ذو قدر، على رسول ذي قدر، في أمة ذات قدر.
ليلة
ليست كالأيام ولا الشهور ولا سنة أو سنتين ولا ألف شهر؛ بل هي خير من ألف
شهر، خير من غالب أعمار بني الإنسان، خير من ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر،
مَن حرم خيرها فقد حرم، ومن أدركها أدرك الخير كله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ
وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ
الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ
حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" (رواه النسائي 2106 وغيره).
ليلة
ساكنة هادئة شمس صبيحتها بيضاء نقية، فيها قلوب خاشعة، ووجوه لربها ساجدة،
ما سألت شيئاً إلا أعطيت، تشهدها الملائكة {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] أي:
يكثر تنـزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة ينـزلون مع
تنـزل البركة والرحمة، كما يتنـزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر،
ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق، تعظيماً له.
ليلة أوصى فيها
النبي صلى الله عليه وسلم من أدركها بطلب العفو، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله
عنها قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ
لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ قُولِي "اللَّهُمَّ
إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (رواه الترمذي
وغيره).
ليلة ينزل فيها العفو والمغفرة الذي به تتنزل بركات السماء
وتفتح به كنوز الأرض، ليلة تهفو إليها كل نفس مؤمنة وتتمنى إدراكها، فتخلص
لربها وتحتسب، وتتخلص من شواغل الدنيا وتجتهد في الدعاء وتتبع هدي نبيها،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه ُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ
إِيمَانً وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ
صَام َرَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن
ْذَنْبِهِ" (رواه البخاري ومسلم).
وقفة:
أليس مغبوناً من أضاع هذه الليالي وخيرها وبركاتها في الأسواق والمحلات التجارية؟!
أليس محروما من قضاها في القيل والقال والسهر مع الأصحاب؟!
أليس محروماً من قضاها أمام الشاشات والقنوات؟!
إن
المساجد في الجزء الأخير من الليل تناديك فأقبل عليها لتعمُرها مع إخوانك
بالصلاة والتسبيح والدعاء والتهليل.. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.