يا من يعاني مأساة الذنوب اختبئ من الله فلا يراك عليها.
كلما عظم المطلوب كثرت العوارض وهذه سنة الله في الخلق وانظر الى الجنة وعظمها.. انظر في المقابل الى الموانع والقواطع التي حالت دونها.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" حفّت الجنة بالمكاره" مسلم ( 2723) كتاب الجنة وصفة نعيمها، والترمذي (2559) كتاب صفة الجنة. حتى أوجبت أن ذهب من كلّ ألف رجل واحد يدخل الجنة وقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي " يا آدم اخرج بعث النار فيقول آدم وما بعث النار يا رب يقول الله سبحانه وتعالى من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون الى النار وواحد الى الجنة"..
فما السبب؟؟
السبب أن الجنة قد حفت بالموانع والقواطع.. انظر الى محبة الله سبحانه وتعالى والانقطاع اليه والتبتل اليه وحده والأنس به وحده.. انظر الى محبته واتخاذه وكيلا وكافيا وحسيبا.. هل يكتسب العبد أشرف من هذا.. انظر الى القواطع والحوائل المانعة دون ذلك.... هل الطرق الموصلة الى محبة الله سبحانه وتعالى بهذه السهولة.. إنّ هذا غير ممكن.. إنّ هذه الطرق تحتاج الى الكثير من المجاهدة لذا ينبغي أن تنتبه الى هذا الأمر.. انتبه الى تلك العصرة الحادثة بالتوبة..
فلما كانت التوبة من أجلّ الأمور وأعظمها نصبت عليها المعارضات والمحن ليتميز الصادق من الكاذب.. وتقع الفتنة ويحصل الابتلاء ويتميز من يصلح ممن لا يصلح.. قال سبحانه:{ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فآمنوا بالله ورسله، وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} [آل عمران: 179].
فاصبر على تلك العصرة قليلا.. تفضي بك الى رياض الأنس وجنات القدس.
يقول ابن القيّم:
ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلا أفضت به الى رياض الأنس وجنات الانشراح وإن لم يصبر { انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين} [الحج:11].
فاصبر أخي في الله على تلك العصرة ولا تهتم بها.. وتأمل نصر الله بعد ذلك فهذه العصرة لا بد منها.. وهي علامة من علامات الصحة.. فليطمئن قلبك.. وانطلق .. وانطلق..
ما هي أركان التوبة
أولا: الاخلاص: اللهم ارزقنا الاخلاص يا رب:
الإخلاص أن تتوب خوفا من الله وتعظيما لحرماته وإجلالا له وخشية من سقوط المنزلة عنده وخشية البعد والطرد عن الحجاب عن رؤية وجهه في الدار الاخرة.
ثانيا: الاقلاع:
أقلع عن الذنب فورا وبدون مماطلة.. فإنك إن أقمت على الذنب وقلت يا رب تب عليّ.. فيرد عليك الكريم أقلع عن الذنب وأنا أتوب عليك..
ثالثا: الندم:
إنّ الندم يحصل بمطالعة الجناية.. وهذا يكون بتعظيم الحق جل جلاله ومعرفة مقامه.. ومعرفة ذاته وصفاته والتعبد اليه بها.. ومعرفة النفس وإنزالها منزلتها ومعرفة أن سبب كلّ شر يقع فيه ابن آدم فمن نفسه.. وتصديق الوعيد..
هذه هي الثلاثة التي يحصل بها الندم:
(1) معرفة الله.
(2) معرفة النفس.
(3) تصديق الوعيد.
ولأن عماد التوبة على الندم فسنقف هنا قليلا لنتأمل هذه الأمور الثلاثة:
(1) تعظيم الحق: فإذا أردت أن تعرف عظم الذنب.. فانظر الى عظمة من أذنبت في حقه.. أكبر آفة وقع فيها أهل عصرنا.. وأكبر معصية ارتكبتها قلوب أمتنا... أن زالت هيبة الله من القلوب.. هذه هي المأساة.. أننا صرنا نخاف من البشر أكثر من خوفنا من الله.. ونستحيي من البشر أعظم من حيائنا من الله.. ونرجو البشر بأعظم من رجائنا في وجه الله.. لذا لما هان الله علينا هنّا عليه.. والجزاء من جنس العمل...
أيها الاخوة..والأخوات إن تعظيم الحق ألا يرى في قلبك سواه. ومن كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته.. لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه.. فينبغي أن يعظم الله في قلبك..
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
واستجلاب تعظيم الرب.. أن تعرف الله سبحانه وتعالى.. وهو سبحانه يتعرف الى العباد في قرآنه.. وعلى لسان نبيه.. بصفات ألوهيته تارة.. وبصفات ربوبيته تارة اخرى..
فمعرفة صفات الالوهية.. توجب للعبد المحبة الخالصة.. والشوق الى لقائه.. والأنس والفرح والسرور به.. هذا مما يوجبه النظر في صفات الألوهية.
مثل الصفات التي توجب عبادته جل جلاله. صفات الأمر والنهي.. صفات العهد والوصية.. صفات إرسال الرسل.. وإنزال الكتب والشرائع.. هذه تنبعث منها قوة الامتثال والتنفيذ.. والتبليغ لها والتواصي بها.. والتصديق بالخبر والامتثال بالطلب.. والاجتناب للنهي..
الصفات التي تجلب التعبد أن يسر في خدمته.. وينافس في قربه.. والتودد اليه بطاعته.. ويلهج لسانه بذكره.. ويفر من الخلق اليه.. ويصير الله وحده.. هو همه دون سواه.
أما شهود صفات الربوبية:
فإنها توجب التوكل عليه.. والافتقار اليه.. والاستعانة به.. والذل والانكسار له.. وكمال ذلك " وهو الشاهد الذي أرجو أن يتوصّل اليه" هو ما ذكره ابن القيّم في كتابه القيّم "الفوائد".
" أن يشهد ربوبيته في ألوهيته.. أن تشهد حمده في ملكه.. وعزه في عفوه.. وحكمته في قضائه وقدره.. ونعمته في بلائه.. تشهد عطاءه في منعه.. بره وإحسانه ورحمته في قيوميته.. أن تشهد عدله في انتقامه.. وجوده وكرمه في مغفرته.. أن تشهد ستره وتجاوزه.. وحكمته ونعمته في امره ونهيه.. أن تشهد عزه في رضاه.. وغضبه وحلمه في إمهاله.. وكرمه في إقباله.. وغناه في إعراضه.. أن تعرف الله.. فإذا عرفته عظم في قلبك.
ثم يعلق ابن القيم فيقول: من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التوقير والتعظيم لك من الناس.. وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره.
وعلينا أن ننتبه الى هذه الفائدة الغالية:
فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال.. ثم لا توقر الله فلا تبالي أن يراك سبحانه وتعالى عليها.. أيحب احدكم أن يراه الناس وهو يزني..؟؟ إذن فكيف ترضى أن يراك الله على هذه الحالة..؟؟ ألا تستحيي منه؟؟
وصدق الله تعالى:{ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذا يبيّتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا* هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} [النساء: 108-109].
والله علمنا.. قال لنا سبحانه وتعالى.. لينبهنا الى تلك القضية أتم تنبيه.. لفت نظرنا الى شيء نستشعره.. شيء موجود عندنا وجودا ماديا.. لأننا ننسى استشعار نظر الله ومراقبة الله.. فقال جل جلاله: { وما كنتم تسترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون* وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين* فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} [فصّلت: 22-24].
لما كانت نفس الانسان ضعيفة.. واستشعاره معية الله صعبا ذكرهم الله بأن معهم شهودا: سمعكم، وأبصاركم، وأيديكم، وأرجلكم، وبطونكم، وفروجكم.. نعم ستشهد عليك.. فإذا اردت أن تعصي الله فاذكر ان الله معك يسمعك ويراك {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم} [المجادلة:7].
فإن لم تستشعر تلك القضية.. وعجز قلبك عن استحضار سمع الله وبصره.. فتخشاه.. فتخافه.. تخشى بطشه.. تخاف انتقامه.. تستحيي أن يراك على العيب.. عليك رقيب.. وهو الذي يسترك.. فوقك قاهر.. وعليك قادر.. ومنك قريب.. يستطيع أن ينتقم ويأخذ حقه.. ولكنه الحليم.. والحيي الستير.. جل جلاله.. وعجز قلبك عن استحضار تلك المعية.. فلم تستطع أن تختفي من الله.. ولا أن تستتر منه.. فتذكر أن معك عينا ستشهد عليك.. وأذنا تشهد عليك.. ويدا ستشهد عليك.. ورجلا ستشهد عليك..
فإنك إن استطعت أن تستتر وتختبئ.. فتختبئ من أعضائك.. وتتوارى منها.. فافعل.. فإن لم تقدر فاترك المعصية خوفا من ذي الجلال جل جلاله..
يا من يعاني مأساة الذنوب اختبئ من الله فلا يراك عليها.. فإن نسيت نظر الله وغلبتك شهوتك.. فأعمت عين بصيرتك.. فاختبئ من يدك التي تعصي.. إذا تحركت عينك للنظر فتذكر أنها ستشهد عليك يوم القيامة.. وإذا تحركت رجلك لتعصي فاعلم أنها وكل جوارحك عليك شهود يوم تلقى الله عز وجل..
يا من يؤذي الناس بلسانه.. تذكر أن الله سميع.. يسمعك وسيحاسبك.. فإن نسيت الله.. فتذكر شهادة الجوارح عليك.. تذكر شهادة لسانك وأذنك..
هنا إذا كملت عظمة الله في القلب منعته من المعصية.. إنّك تريد أن يوقرك الناس.. وأنت لا توقر الله.. كيف ذلك... قال تعالى:{ ما لكم لا ترجون لله وقارا} [نوح:13]، أي: لا تعاملونه معاملة من توقرونه.. والتوقير: هو التعظيم.. ومنه قوله تعالى:{ وتعزّروه وتوقّروه} [الفتح:9] قال الحسن: في تفسير قوله تعالى:{ ما لكم لا ترجون لله وقارا} [نوح:13] أي: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرونه..
قال مجاهد: لا تبالون عظمة ربكم.
قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: لا ترون لله طاعة.
قال عبدالله بن عباس: أي لا تعرفون عظمة الله تعالى.
هذه المعاني ترجع كلها الى معنى واحد أنه لو عظموا الله وعرفوه.. أطاعوه وشكروه.. ولم يعصوه.. فطاعته سبحانه.. واجتناب معاصيه.. والحياء منه.. بحسب وقاره في القلب..